وداع الأم صرخة لا يسمعها أحد
حين تَسْكُتُ الأيادي.. وتَنثُرُ التُّرابَ الأخير
وَقَفْتَ اليومَ أمام حُفرةٍ لا تتّسِعُ لِضِيقِ صدرك..
رأيتَ جسدًا كان يَحْمِلُ الدفءَ كله يُوارى في ثرى بارد..
وها هي يدي - التي كنت أرفعها بالدعاء لأمّي - تُلقي حَفْنَةَ الطين الأولى..
في ذلك الصوتِ الخانِقِ لِاصطدام الترابِ بالنعش..
سَمِعْتَ وداعَ الدنيا كلها..
كأنّك تدفنُ شمسًا لا تعود..
تُطَبِّقُ على قلبك: هذه هي الغُربةُ التي لا جَبرَ لها.
كُلُّ حَفنةٍ تُلقيها..
هي ذِكرى تُغَلِّفُها يدك:
هذه.. لِصوتهَا الذي كان يُنبِتُ فيك الأمانَ
وهذه.. لِقَلقِها عليك حين تُغيب
وهذه.. لِضحكتِها التي كانت تَمحو عنك هَمَّ السنين..
الآنَ.. أنت تبني بيديك سدًّا بينك وبينها.
سدًّا من ترابٍ لا يُجيبُ من خلفه صَوت!
ثم تمشي بعيدًا عن القبر..
وخُطاكَ ثقيلةٌ كأنّك تَجُرّ جبالاً من لوعةٍ..
تلتفتُ للمرّة الأخيرة..
فتَرى ظِلَّك المُنْكَسِرَ على الترابِ الطريّ..
وتسمعُ في داخلك صرخةً:
امْسِكْني! لا تتركني هنا وحيدة!
لكنّك تمضي.. لأنّ الحياة تُجبِرُك على أن تُواصِلَ حَمْلَ هذا الألم.
البيت.. ذلك المكان الذي صار فجأةً غريبًا
تلمسُ البابَ وكأنّك تدخُلُ للمرّة الأولى..
تتسلّلُ إلى الداخل خوفًا من صمتٍ لم تعرفه..
تحدّقُ في كرسيّها الفارغ..
في فنجان القهوة الذي لن تلمسه شفتاها..
في الهاتف الذي لن يرنّ باسمها أبدًا..
فتشهقُ كطفلٍ ضاع في زحام السوق..
وتُدركُ أنَّ "الأمومة" ليست كلمةً..
بل هي ذلك الفراغُ المهولُ الذي يَملأُ البيتَ بعدها!
تنظرُ إلى السماء..
فتتذكّرُ يدك وهي تُلقي التراب..
فتسألُ نفسك بمرارة:
"هل كنتَ قاسيًا؟"
لكنّ النورَ الإلهيّ يُنْبِتُ في ظلامِك بُصلةً:
لستَ أنت من دَفنها..
بل أنت من غَرسَ جسدها كبذرةٍ في تربةٍ تنتظر القيامة..
ستُثمرُ يومًا شجرةً في جنّةٍ لا موت فيها".
يا بُنَيّ:
لا عَيبَ في أن تنهار..
فمَن ودّع أمّه لم يُودّع مجرّد إنسان..
بل ودّع "الوطن" الذي وُلِدتَ فيه مرّتين:
مرّةً حين خرجتَ من رحمها..
ومرّةً حين دخلتِ الدنيا على يديها!
لِذا..
ابكِي اليومَ دَمْعًا يُطهِّرُ الروح..
ثمّ غدًا..
احملها فيك كما حملتك:
بِصبرٍ يُشبه المعجزات،
وبحبٍّ يَصنعُ من الذكرياتِ خُطًى تمشي بها إلى أن تَلتقيا.
اللهمّ..
أَعِدْ لقاءنا بها تحت عرشك..
واجعل قبرها نورًا يُضيء دربي..
واغفر لها كما ربّتني صغيرًا..
وآنسها في وحدتها كما كانت تُؤنس وحشتي..
واجعَلني من الباقينَ لها: صلاةً تدوم، وعِلمًا ينتفع، وولدًا صالحًا يدعو لها ما دام!
هذه الجِراحُ لا تندمل..
لكنّ الإيمانَ يَجعلها أنقى..
فالأمُّ لا ترحل.. إنما تتحوّل إلى صلاةٍ في جوف الليل، ودعوةٍ في سجدة، ودمعةٍ تَرفعُ القلوبَ إلى السماء.
[10/8, 6:31 م] ابوصابر السوادي M: حين تَسْكُتُ الأيادي.. وتَنثُرُ التُّرابَ الأخير
وَقَفْتَ اليومَ أمام حُفرةٍ لا تتّسِعُ لِضِيقِ صدرك..
رأيتَ جسدًا كان يَحْمِلُ الدفءَ كله يُوارى في ثرى بارد..
وها هي يدي - التي كنت أرفعها بالدعاء لأمّي - تُلقي حَفْنَةَ الطين الأولى..
في ذلك الصوتِ الخانِقِ لِاصطدام الترابِ بالنعش..
سَمِعْتَ وداعَ الدنيا كلها..
كأنّك تدفنُ شمسًا لا تعود..
تُطَبِّقُ على قلبك: هذه هي الغُربةُ التي لا جَبرَ لها.
كُلُّ حَفنةٍ تُلقيها..
هي ذِكرى تُغَلِّفُها يدك:
هذه.. لِصوتهَا الذي كان يُنبِتُ فيك الأمانَ
وهذه.. لِقَلقِها عليك حين تُغيب
وهذه.. لِضحكتِها التي كانت تَمحو عنك هَمَّ السنين..
الآنَ.. أنأ أبني بيدي سدًّا بيني وبينها.
سدًّا من ترابٍ لا يُجيبُ من خلفه صَوت!
ثم أمشي بعيدًا عن القبر..
وخُطاي ثقيلةٌ كأنّي أجُرّ جبالاً من لوعةٍ..
تلتفتُ للمرّة الأخيرة..
فتَرى ظِلَّك المُنْكَسِرَ على الترابِ الطريّ..
وتسمعُ في داخلك صرخةً:
امْسِكْني! لا تتركني هنا وحيدة!
لكنّك تمضي.. لأنّ الحياة تُجبِرُك على أن تُواصِلَ حَمْلَ هذا الألم.
البيت.. ذلك المكان الذي صار فجأةً غريبًا
تلمسُ البابَ وكأنّك تدخُلُ للمرّة الأولى..
تتسلّلُ إلى الداخل خوفًا من صمتٍ لم تعرفه..
تحدّقُ في كرسيّها الفارغ..
في فنجان القهوة الذي لن تلمسه شفتاها..
في الهاتف الذي لن يرنّ باسمها أبدًا..
فتشهقُ كطفلٍ ضاع في زحام السوق..
وتُدركُ أنَّ "الأمومة" ليست كلمةً..
بل هي ذلك الفراغُ المهولُ الذي يَملأُ البيتَ بعدها!
تنظرُ إلى السماء..
فتتذكّرُ يدك وهي تُلقي التراب..
فتسألُ نفسك بمرارة:
"هل كنتَ قاسيًا؟"
لكنّ النورَ الإلهيّ يُنْبِتُ في ظلامِك بُصلةً:
لستَ أنا من دَفنها..
بل أنا من غَرسَ جسدها كبذرةٍ في تربةٍ تنتظر القيامة..
ستُثمرُ يومًا شجرةً في جنّةٍ لا موت فيها".
يا صاح
لا عَيبَ في أن تنهار..
فمَن ودّع أمّه لم يُودّع مجرّد إنسان..
بل ودّع "الوطن" الذي وُلِدتَ فيه مرّتين:
مرّةً حين خرجتَ من رحمها..
ومرّةً حين دخلتِ الدنيا على يديها!
لِذا..
ابكِي اليومَ دَمْعًا يُطهِّرُ الروح..
ثمّ غدًا..
احملها فيك كما حملتك:
بِصبرٍ يُشبه المعجزات،
وبحبٍّ يَصنعُ من الذكرياتِ خُطًى تمشي بها إلى أن تَلتقيا.
اللهمّ..
أَعِدْ لقاءنا بها تحت عرشك..
واجعل قبرها نورًا يُضيء دربي..
واغفر لها كما ربّتني صغيرًا..
وآنسها في وحدتها كما كانت تُؤنس وحشتي..
واجعَلني من الباقينَ لها: صلاةً تدوم، وعِلمًا ينتفع، وولدًا صالحًا يدعو لها ما دام!
هذه الجِراحُ لا تندمل..
لكنّ الإيمانَ يَجعلها أنقى..
فالأمُّ لا ترحل.. إنما تتحوّل إلى صلاةٍ في جوف الليل، ودعوةٍ في سجدة، ودمعةٍ تَرفعُ القلوبَ إلى السماء.